فصل: تفسير الآية رقم (132):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (109):

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ} هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: {بِأَمْرِهِ}.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَاحِدُ الْأُمُورِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [9/ 29]. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ وَاحِدُ الْأُمُورِ: فَهُوَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا أَوْقَعَ بِالْيَهُودِ مِنَ الْقَتْلِ وَالتَّشْرِيدِ كَقَوْلِهِ: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ} الْآيَةَ [59/ 2، 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَالْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}. الْآيَةَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَزَلَتْ فِي صَدِّ الْمُشْرِكِينَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ عَامَ سِتٍّ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَالْخَرَابُ مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ خَرَابُ الْمَسَاجِدِ بِمَنْعِ الْعِبَادَةِ فِيهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الْآيَةَ [48/ 25].
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْخَرَابُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْخَرَابُ الْحِسِّيُّ. وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَنْ خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ بُخْتَنَصَّرُ أَوْ غَيْرُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [17/ 7].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} هَذَا الْوَلَدُ الْمَزْعُومُ عَلَى زَاعِمِهِ لَعَائِنُ اللَّهِ، قَدْ جَاءَ مُفَصَّلًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [9/ 30]، وَقَوْلِهِ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} الْآيَةَ [16/ 57].

.تفسير الآية رقم (124):

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدَيِ الظَّالِمِينَ} يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ ظَالِمِينَ. وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِأَنَّ مِنْهُمْ ظَالِمًا وَغَيْرَ ظَالِمٍ كَقَوْلِهِ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}، وَقَوْلِهِ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} الْآيَةَ [43/ 28].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَفْعُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لِقَوَاعِدِ الْبَيْتِ، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ أَنَّهُ أَرَاهُ مَوْضِعَهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [22/ 26] أَيْ: عَيَّنَّا لَهُ مَحِلَّهُ وَعَرَّفْنَاهُ بِهِ. قِيلَ: دَلَّهُ عَلَيْهِ بِمُزْنَةٍ كَانَ ظِلُّهَا قَدْرَ مِسَاحَتِهِ. وَقِيلَ: دَلَّهُ عَلَيْهِ بِرِيحٍ تُسَمَّى الْخُجُوجُ كَنَسَتْ عَنْهُ حَتَّى ظَهَرَ اسْمُهُ الْقَدِيمُ فَبَنَى عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}:
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الَّتِي أَجَابَ اللَّهُ بِهَا دُعَاءَ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَيْضًا هَذَا الرَّسُولَ الْمَسْؤُولَ بَعَثَهُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ؟ وَلَكِنَّهُ يُبَيِّنُ فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّ تِلْكَ الْأُمَّةَ الْعَرَبُ، وَالرَّسُولَ هُوَ سَيِّدُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [62/ 2، 3]؛ لِأَنَّ الْأُمِّيِّينَ الْعَرَبُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالرَّسُولَ الْمَذْكُورَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجْمَاعًا، وَلَمْ يُبْعَثْ رَسُولٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ إِلَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ عُمُومَ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَبَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [6/ 161] فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الْآيَةَ [16/ 123].

.تفسير الآية رقم (132):

{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ}: أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ هُنَا بِقَوْلِهِ: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [3/ 19]، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [3/ 85].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ الْأَعْلَى أَنَّهُ صُحُفٌ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي تِلْكَ الصُّحُفِ: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [87/ 16- 17] وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [87/ 18، 19].
وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا أُوتِيَهُ مُوسَى وَعِيسَى، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَذَكَرَ أَنَّ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى هُوَ التَّوْرَاةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالصُّحُفِ فِي قَوْلِهِ: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [6/ 154] وَهُوَ التَّوْرَاةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَكَرَ أَنَّ مَا أُوتِيَهُ عِيسَى هُوَ الْإِنْجِيلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} [57/ 27].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} أَمَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُوتِيَهُ جَمِيعُ النَّبِيِّينَ، وَأَنْ لَا يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، حَيْثُ قَالَ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا هَلْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَوْ لَا؟ وَلَمْ يَذْكُرْ جَزَاءَهُمْ إِذَا فَعَلُوهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُمُ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [2/ 285] وَذَكَرَ جَزَاءَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [4/ 152].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [1/ 7].

.تفسير الآية رقم (143):

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} الْآيَةَ؛ أَيْ: خِيَارًا عُدُولًا، وَيَدُلُّ لِأَنَّ الْوَسَطَ الْخِيَارُ الْعُدُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [3/ 110] وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
هُمُ وَسْطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ لِحُكْمِهِمْ ** إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [4/ 41، 42].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ} الْآيَةَ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ الْجَاهِلُ أَنَّهُ تَعَالَى يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا- بَلْ هُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [3/ 154] فَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {لِيَبْتَلِيَ} دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ بِالِاخْتِبَارِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا؛ لِأَنَّ الْعَلِيمَ بِذَاتِ الصُّدُورِغَنِيٌّ عَنِ الِاخْتِبَارِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانٌ عَظِيمٌ لِجَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي يَذْكُرُ اللَّهُ فِيهَا اخْتِبَارَهُ لِخَلْقِهِ، وَمَعْنَى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} أَيْ: عِلْمًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِبَارِ ظُهُورُ الْأَمْرِ لِلنَّاسِ. أَمَّا عَالِمُ السِّرِّ وَالنَّجْوَى فَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَوْلِهِ: {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} أَشَارَ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ مُخَاطِبًا لَهُ: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} الْآيَةَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَهُ إِجْمَاعًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ} أَيْ: صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَسْتَرْوِحُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} وَلَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ الِاقْتِرَانِ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} بَيَّنَهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الْآيَةَ [2/ 144].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَئِكَ يَلْعَنَهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنَهُمُ اللَّاعِنُونَ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا اللَّاعِنُونَ،
وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [2/ 161].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا وَجْهَ كَوْنِهِمَا آيَةً، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [50/ 6، 7، 8]، وَقَوْلِهِ: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [67/ 3، 4، 5]، وَقَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [67/ 15].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا وَجْهَ كَوْنِ اخْتِلَافِهِمَا آيَةً، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [28/ 71، 72، 73] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ تَسْخِيرِهِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [7/ 57]، وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [24/ 43].

.تفسير الآية رقم (165):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} الْآيَةَ، الْمُرَادُ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا الْكُفَّارُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [167] وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ مُقَرِّرًا لَهُ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [31/ 31].
قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [2/ 254]، وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [10/ 106].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} الْآيَةَ، أَشَارَ هُنَا إِلَى تَخَاصُمِ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ بَيَّنَ مِنْهُ غَيْرَ مَا ذُكِرَ هُنَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [34/ 31، 32، 33] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} لَمْ يَذْكُرْ هُنَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ النُّورِ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} الْآيَةَ [24/ 21].

.تفسير الآية رقم (169):

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي يَقُولُونَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَكِنَّهُ فَصَّلَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي يَقُولُونَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ هُوَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ وَنَحْوَهَا، وَأَنَّ لَهُ أَوْلَادًا، وَأَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا- فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [5/ 103]، وَقَوْلِهِ: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} الْآيَةَ [6/ 140]، وَقَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} الْآيَةَ [10/ 59]، وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [16/ 116] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الشُّرَكَاءِ الْمَزْعُومَةِ بِقَوْلِهِ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [10/ 18 وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْأَوْلَادِ الْمَزْعُومَةِ بِقَوْلِهِ: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [2/ 116] وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ فَظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَفْصِيلُ مَا أُجْمِلَ فِي اسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ مَا مِنْ قَوْلِهِ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

.تفسير الآية رقم (173):

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} الْآيَةَ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ حَرَامٌ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ خَارِجَةٌ عَنْ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} الْآيَةَ [5/ 96]، إِذْ لَيْسَ لِلْبَحْرِ طَعَامٌ غَيْرُ الصَّيْدِ إِلَّا مَيْتَتُهُ. وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِطَعَامِهِ قَدِيدُهُ الْمُجَفَّفُ بِالْمِلْحِ مَثَلًا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِصَيْدِهِ الطَّرِيُّ مِنْهُ، فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْقَدِيدَ مِنْ صَيْدِهِ فَهُوَ صَيْدٌ جُعِلَ قَدِيدًا، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِطَعَامِهِ مَيْتَتُهُ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَجْمَعِينَ وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَسْفُوحِ مِنَ الدِّمَاءِ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [6/ 145] فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْمَسْفُوحِ كَالْحُمْرَةِ الَّتِي تَعْلُو الْقِدْرَ مِنْ أَثَرِ تَقْطِيعِ اللَّحْمِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، إِذْ لَوْ كَانَ كَالْمَسْفُوحِ لَمَا كَانَ فِي التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: {مَسْفُوحًا}.
فَائِدَةٌ:
وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مَيْتَتَيْنِ وَدَمَيْنِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْأَنْعَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ «هُوَ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِمَا، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَابْنُ الْجَارُودِ فِي الْمُنْتَقَى، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبُخَارِيُّ.
وَظَاهِرُ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُهُ} يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَكَلَ مِنَ الْعَنْبَرِ، وَهُوَ حُوتٌ أَلْقَاهُ الْبَحْرُ مَيْتًا وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ.
وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْمَاءِ، وَإِنْ أُخْرِجَ مِنْهُ مَاتَ كَالْحُوتِ، وَقِسْمٌ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ، كَالضَّفَادِعِ وَنَحْوِهَا.
أَمَّا الَّذِي لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْمَاءِ كَالْحُوتِ فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ،
وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِيمَا مَاتَ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ، وَطَفَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَقَالَ فِيهِ: هُوَ مَكْرُوهُ الْأَكْلِ، بِخِلَافِ مَا قَتَلَهُ إِنْسَانٌ أَوْ حَسِرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَمَاتَ، فَإِنَّهُ مُبَاحُ الْأَكْلِ عِنْدَهُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ: كَالضَّفَادِعِ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ وَتُرْسِ الْمَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ؛ فَذَهَبَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مُبَاحَةُ الْأَكْلِ، وَسَوَاءٌ مَاتَ بِنَفْسِهِ أَوْ وُجِدَ طَافِيًا أَوْ بِاصْطِيَادٍ، أَوْ أُخْرِجَ حَيًّا، أَوْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، أَوْ دُسَّ فِي طِينٍ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ، وَابْنُ دِينَارٍ: مَيْتَةُ الْبَحْرِ مِمَّا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ نَجِسَةٌ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ قَوْلًا ثَالِثًا بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ فِي الْمَاءِ، فَيَكُونُ طَاهِرًا، أَوْ فِي الْبَرِّ فَيَكُونُ نَجِسًا، وَعَزَاهُ لِعِيسَى، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَالضَّفَادِعُ الْبَحْرِيَّةُ عِنْدَ مَالِكٍ مُبَاحَةُ الْأَكْلِ، وَإِنْ مَاتَتْ فِيهِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّفَادِعِ وَإِنْ مَاتَتْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَيْدِ الْمَاءِ. اهـ.
أَمَّا مَيْتَةُ الضَّفَادِعِ الْبَرِّيَّةِ فَهِيَ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ مَنْعُ الضَّفَادِعِ مُطْلَقًا وَلَوْ ذُكِّيَتْ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا كَلْبُ الْمَاءِ وَخِنْزِيرُهُ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيهِمَا الْكَرَاهَةُ.
قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُكْرَهُ، وَكَلْبُ مَاءٍ وَخِنْزِيرُهُ.
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: أَمَّا كَلْبُ الْبَحْرِ وَخِنْزِيرُهُ، فَرَوَى ابْنُ شَعْبَانَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَقَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَمْ يَكُنْ مَالِكٌ يُجِيبُنَا فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ بِشَيْءٍ، وَيَقُولُ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرًا.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَأَنَا أَتَّقِيهِ وَلَوْ أَكَلَهُ رَجُلٌ لَمْ أَرَهُ حَرَامًا، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَحُجَّتَهُ فِي إِبَاحَةِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ كَانَ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ أَوْ لَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [5/ 96] وَلَا طَعَامَ لَهُ غَيْرُ صَيْدِهِ إِلَّا مَيْتَتُهُ، كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْحَقُّ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ:
«هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَقَدْ قَدَّمْنَا ثُبُوتَ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ حَلَالٌ، وَهُوَ فَصْلٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُفْرَدَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ كَانَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. كَقَوْلِهِ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [24/ 63]، وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [14/ 34].
وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ: [الرَّجَزُ]:
وَمَا مُعَرَّفًا بِأَلْ قَدْ وُجِدَا

أَوْ بِإِضَافَةٍ إِلَى مُعَرَّفٍ إِذَا ** تَحَقَّقَ الْخُصُوصُ قَدْ نَفَى

وَبِهِ نَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَيْتَتُهُ» يَعُمُّ بِظَاهِرِهِ كُلَّ مَيْتَةٍ مِمَّا فِي الْبَحْرِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَنَّ مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءً كَانَ طَافِيًا عَلَى الْمَاءِ أَمْ لَا.
وَأَمَّا الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ فَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِيهِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ وَمُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ، وَاخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينِ: أَنَّ مَيْتَتَهُ كُلَّهُ حَلَالٌ؛ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا آنِفًا، وَمُقَابِلُهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْعُ مَيْتَةِ الْبَحْرِيِّ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مُطْلَقًا.
الثَّانِي: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ، كَالْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ فَتُبَاحُ مَيْتَةُ الْبَحْرِيِّ مِنْهُ، وَبَيْنَ مَا لَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ كَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ فَتُحْرَمُ مَيْتَةُ الْبَحْرِيِّ مِنْهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حُجَّةَ الْأَوَّلِ أَظْهَرُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُهُ} كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَهُوَ أَنْ كُلَّ مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْمَاءِ فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ، وَالطَّافِي مِنْهُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَأَمَّا مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ فَمَيْتَتُهُ عِنْدَهُ حَرَامٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذَكَاتِهِ إِلَّا مَا لَا دَمَ فِيهِ، كَالسَّرَطَانِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ، وَاحْتَجَّ لِعَدَمِ إِبَاحَةِ مَيْتَةِ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ؛ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فَلَمْ يَبُحْ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ، كَالطَّيْرِ. وَحَمَلَ الْأَدِلَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى خُصُوصِ مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ. اهـ.
وَكَلْبُ الْمَاءِ عِنْدَهُ إِذَا ذُكِّيَ حَلَالٌ، وَلَا يُخْفَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ يَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَظْهَرُ دَلِيلًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ كُلَّ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ لَا يُؤْكَلُ الْبَحْرِيُّ مِنْهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ، وَأَمَّا مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ وَهُوَ الْحُوتُ بِأَنْوَاعِهِ فَمَيْتَتُهُ عِنْدَهُ حَلَالٌ، إِلَّا إِذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فِي الْبَحْرِ وَطَفَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ عِنْدَهُ، فَمَا قَتَلَهُ إِنْسَانٌ، أَوْ حَسَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَمَاتَ؛ حَلَالٌ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الطَّافِي عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَحُجَّتُهُ فِيمَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْهُ: أَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [7/ 157] وَحُجَّتُهُ فِي كَرَاهَةِ السَّمَكِ الطَّافِي مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبَدَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ» اهـ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَيُّوبُ، وَحَمَّادٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَوْقَفُوهُ عَلَى جَابِرٍ. وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اهـ.
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنِ الِاحْتِجَاجِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ أَلْفَاظَ النُّصُوصِ عَامَّةٌ فِي مَيْتَةِ الْبَحْرِ، وَأَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ الْعَامِّ لَابُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمُطْلَقُ ادِّعَاءِ أَنَّهُ خَبِيثٌ لَا يَرُدُّ بِهِ عُمُومَ الْأَدِلَّةِ الصَّرِيحَةِ فِي عُمُومِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ، وَعَنِ الِاحْتِجَاجِ الثَّانِي بِتَضْعِيفِ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ، فَهُوَ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ شَيْءٌ، فَكَيْفَ وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- الْمُنْتَشِرَةِ؟
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ كَثِيرُ الْوَهْمِ سَيِّئُ الْحِفْظِ، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ قَالَ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ بِمَحْفُوظٍ، وَيُرْوَى عَنْ جَابِرٍ خِلَافُهُ قَالَ: وَلَا أَعْرِفُ لِأَثَرِ ابْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ شَيْئًا.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ مَتْرُوكٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، قَالَ: وَرَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، قَالَ: وَرَوَاهُ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَلَا يُحْتَجُّ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ بَقِيَّةُ، فَكَيْفَ بِمَا يُخَالِفُ؟ قَالَ: وَقَوْلُ الْجَمَاعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ جَابِرٍ مَعَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» اهـ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى فِي بَابِ مَنْ كَرِهَ أَكْلَ الطَّافِي مَا نَصُّهُ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ فَيْرُوزَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَسَّانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَا ضَرَبَ بِهِ الْبَحْرُ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ، أَوْ صِيدَ فِيهِ فَكُلْ، وَمَا مَاتَ فِيهِ، ثُمَّ طَفَا فَلَا تَأْكُلْ» وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ أَبُو أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَوْقُوفًا، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ، وَأَبُو عَاصِمٍ، وَمُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مَوْقُوفًا، وَخَالَفَهُمْ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ فَرَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مَرْفُوعًا وَهُوَ وَاهِمٌ فِيهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدَانَ، أَنْبَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ اللَّخْمِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا طَفَا السَّمَكُ عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ، وَإِذَا جَزَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَكُلْهُ، وَمَا كَانَ عَلَى حَافَّتِهِ فَكُلْهُ» قَالَ سُلَيْمَانُ: لَمْ يَرْفَعْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سُفْيَانَ إِلَّا أَبُو أَحْمَدَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي قَدَّمْنَا، وَالْكَلَامُ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ النَّوَوِيِّ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ- فَتَحَصَّلَ: أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ السَّمَكِ الطَّافِي ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَضْعِيفِهِ وَعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَحَكَى النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْحُفَّاظِ عَلَى ضَعْفِهِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ، وَحَكَمُوا بِأَنَّ وَقْفَهُ عَلَى جَابِرٍ أَثْبَتُ. وَإِذَنْ فَهُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ مُعَارَضٌ بِأَقْوَالِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-
وَبِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَقَدْ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ صِنَاعَةَ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ لَا تَقْتَضِي الْحُكْمَ بَرَدِّ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ رَفْعَهُ جَاءَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَبَعْضِهَا صَحِيحٌ، فَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ لَهُ مَرْفُوعًا الَّتِي قَدَّمْنَا ضَعَّفُوهَا بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهَا يَحْيَى بْنَ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيَّ، وَأَنَّهُ سَيِّئُ الْحِفْظِ.
وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ مَرْفُوعًا مَعَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سُلَيْمٍ الْمَذْكُورَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَرِوَايَةُ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ لَهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مَرْفُوعًا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَالدَّارْقُطْنِيِّ، ضَعَّفُوهَا بِأَنَّهُ وَاهِمٌ فِيهَا، قَالُوا: خَالَفَهُ فِيهَا وَكِيعٌ وَغَيْرُهُ، فَرَوَوْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مَوْقُوفًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيَّ الْمَذْكُورَ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ دِرْهَمٍ الْأَسْدِيُّ ثِقَةٌ ثَبَتٌ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: إِنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ فِي حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ بِرَفْعِهِ تُعَضِّدَانِ بِرِوَايَةِ بَقِيَّةِ بْنِ الْوَلِيدِ لَهُ مَرْفُوعًا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ، وَبَقِيَّةُ الْمَذْكُورُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَيَعْتَضِدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ لَهُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا.
وَرِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ لَهُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَإِنْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ الْمَذْكُورَانِ ضَعِيفَيْنِ؛ لِاعْتِضَادِ رِوَايَتِهِمَا بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ، وَيَعْتَضِدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ لَهُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكُمَ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ بِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ؛ لِمَا رَأَيْتَ مِنْ طُرُقِ الرَّفْعِ الَّتِي رُوِيَ بِهَا وَبَعْضِهَا صَحِيحٌ، كَرِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الْمَذْكُورَةِ، وَالرَّفْعُ زِيَادَةٌ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ.
قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: [الرَّجَزُ]:
وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزِيدَ اللَّفْظُ ** مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ

إِلَخْ. نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ}، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ اعْتِضَادُهُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْقِيَاسِ بَيْنَ الطَّافِي وَغَيْرِهِ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ،
وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي خُصُوصِ الطَّافِي فَهُوَ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ أَدِلَّةِ الْإِبَاحَةِ.
فَالدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَةِ أَكْلِ السَّمَكِ الطَّافِي لَا يَخْلُو مِنْ بَعْضِ قُوَّةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمَكِ الطَّافِي هُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الْبَحْرِ، فَيَطْفُو عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَكُلُّ مَا عَلَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَلَمْ يَرْسُبْ فِيهِ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ طَافِيًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [الْوَافِرُ]:
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ** وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَ

وَيُحْكَى فِي نَوَادِرِ الْمَجَانِينِ أَنَّ مَجْنُونًا مَرَّ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي رَاسِبٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي طُفَاوَةَ يَخْتَصِمُونَ فِي غُلَامٍ، فَقَالَ لَهُمُ الْمَجْنُونُ: أَلْقُوا الْغُلَامَ فِي الْبَحْرِ فَإِنْ رَسَبَ فِيهِ فَهُوَ مِنْ بَنِي رَاسِبٍ، وَإِنْ طَفَا عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ مِنْ بَنِي طُفَاوَةَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [5/ 96]. قَالَ عُمَرُ: صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ، وَطَعَامُهُ مَا رَمَى بِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الطَّافِي حَلَالٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ إِلَّا مَا قَذُرَتْ مِنْهَا، وَالْجَرِّيُّ لَا تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ.
وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ نَذْبَحَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: صَيْدُ الْأَنْهَارِ وَقِلَاتُ السَّيْلِ أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلَا: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [35/ 12] وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لَأَطْعَمْتُهُمْ. وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرِيِّ: ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ. انْتَهَى مِنَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا يُعَلِّقُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ إِلَّا مَا كَانَ صَحِيحًا ثَابِتًا عِنْدَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمُعَلَّقَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ: قَالَ عُمَرُ- هُوَ ابْنُ الْخَطَّابِ- صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ، وَطَعَامُهُ مَا رَمَى بِهِ. وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ الْبَحْرَيْنِ سَأَلَنِي أَهْلُهَا عَمَّا قَذَفَ الْبَحْرُ؟ فَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ فَذَكَرَ قِصَّةً قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [5/ 96] فَصَيْدُهُ: مَا صِيدَ، وَطَعَامُهُ: مَا قَذَفَ بِهِ. قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ- هُوَ الصَّدِّيقُ-: الطَّافِي حَلَالٌ، وَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالطَّحَاوِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَشِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ حَلَالٌ. زَادَ الطَّحَاوِيُّ: لِمَنْ أَرَادَ أَكْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَكَذَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْهَا. وَفِي بَعْضِهَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَكَلَ السَّمَكَ الطَّافِي عَلَى الْمَاءِ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ اللَّهَ ذَبَحَ لَكُمْ مَا فِي الْبَحْرِ فَكُلُوهُ كُلُّهُ فَإِنَّهُ ذَكِيٌّ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ إِلَّا مَا قَذِرْتَ مِنْهَا، وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ}، قَالَ طَعَامُهُ: مَيْتَتُهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ صَيْدَ الْبَحْرِ: لَا تَأْكُلْ مِنْهُ طَافِيًا، فِي سَنَدِهِ الْأَجْلَحُ وَهُوَ لَيِّنٌ، وَيُوَهِّنُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَاضِي قَبْلَهُ، قَوْلُهُ: وَالْجَرِّيُّ لَا تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ، وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَرِّيِّ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ كَرِهَتْهُ الْيَهُودُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِهِ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْجَرِّيِّ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ؛ إِنَّمَا تُحَرِّمُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ، وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيٍّ وَطَائِفَةٍ نَحْوَهُ. وَالْجَرِّيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ ضَبْطُ الصِّحَاحِ، وَكَسْرُ الرَّاءِ الثَّقِيلَةِ قَالَ: وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْجَرِّيتُ وَهُوَ مَا لَا قِشْرَ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّمَا أَكْرَهُهُ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنَ الْمَمْسُوخِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْجَرِّيتُ نَوْعٌ مِنَ السَّمَكِ يُشْبِهُ الْحَيَّاتِ. وَقِيلَ: سَمَكٌ لَا قِشْرَ لَهُ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْمَرْمَاهِيُّ، وَالسَّلُّورُ مِثْلُهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ ضَرْبٌ مِنَ السَّمَكِ يُشْبِهُ الْحَيَّاتِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: نَوْعٌ عَرِيضُ الْوَسَطِ، دَقِيقُ الطَّرَفَيْنِ. قَوْلُهُ: وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ تَذْبَحَهُ، وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّارِيخِ وَابْنُ مَنْدَهْ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا سَمِعَا شُرَيْحًا صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَطَاءٍ. فَقَالَ: أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ تَذْبَحَهُ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الصَّحَابَةِ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ شُرَيْحٍ، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعْتُ شَيْخًا كَبِيرًا يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا فِي الْبَحْرِ دَابَّةٌ إِلَّا قَدْ ذَبَحَهَا اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسٍ رَفَعَهُ: «أَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَبَحَ كُلَّ مَا فِي الْبَحْرِ لِبَنِي آدَمَ» وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ نَحْوَهُ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدَيْنِ جَيِّدَيْنِ عَنْ عُمَرَ، ثُمَّ عَنْ عَلِيٍّ: الْحُوتُ ذَكِيٌّ كُلُّهُ، قَوْلُهُ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: صَيْدُ الْأَنْهَارِ وَقِلَاتُ السَّيْلِ أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلَا: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [35/ 12]، وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهَذَا سَوَاءٌ، وَأَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ فِي كِتَابِ مَكَّةَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَفِيهِ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ حِيتَانِ بِرْكَةِ الْقُشَيْرِيِّ- وَهِيَ بِئْرٌ عَظِيمَةٌ فِي الْحَرَمِ- أَتُصَادُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَسَأَلْتُهُ عَنِ ابْنِ الْمَاءِ وَأَشْبَاهِهِ أَصَيْدُ بَحْرٍ أَمْ صَيْدُ بَرٍّ؟ فَقَالَ: حَيْثُ يَكُونُ أَكْثَرَ فَهُوَ صَيْدٌ.
وَقِلَاتٌ: بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَآخِرُهُ مُثَنَّاةٌ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ مُثَلَّثَةٌ. وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ: جَمْعُ قَلْتٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِثْلَ: بَحْرٌ وَبِحَارٌ، وَهُوَ النَّقْرَةُ فِي الصَّخْرَةِ، يُسْتَنْقَعُ فِيهَا الْمَاءُ. قَوْلُهُ: وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لَأَطْعَمْتُهُمْ، وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا. أَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ الْأَوَّلِ فَقِيلَ إِنَّهُ ابْنُ عَلِيٍّ، وَقِيلَ: الْبَصْرِيُّ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ: وَرَكِبَ الْحَسَنُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَوْلِهِ: عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودٍ، أَيْ: مُتَّخَذٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ: فَالضَّفَادِعُ جَمْعُ ضِفْدَعٍ، بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتَحِ الدَّالِ وَبِكَسْرِهَا أَيْضًا، وَحُكِيَ ضَمُّ أَوَّلِهِ مَعَ فَتْحِ الدَّالِ، وَالضَّفَادِي بِغَيْرِ عَيْنٍ لُغَةٌ فِيهِ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَمْ يُبَيِّنِ الشَّعْبِيُّ هَلْ تُذَكَّى أَمْ لَا؟ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا تُؤْكَلُ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا مَأْوَاهُ الْمَاءُ وَغَيْرُهُ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ: لَابُدَّ مِنَ التَّذْكِيَةِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: مَيْتَةُ الضَّفَادِعِ الْبَرِّيَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي نَجَاسَتِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [5/ 3] وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ؛ لِأَنَّهَا بَرِّيَّةٌ، كَمَا صَرَّحَ عَبْدُ الْحَقِّ بِأَنَّ مَيْتَتَهَا نَجِسَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَطَّابُ وَالْمَوَّاقُ وَغَيْرُهُمَا فِي شَرْحِ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَالْبَحْرِيُّ وَلَوْ طَالَتْ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ السَّابِقِ: وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ فِي السُّلَحْفَاةِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ طَاوُسَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِأَكْلِ السُّلَحْفَاةِ بَأْسًا، وَمِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا، وَالسُّلَحْفَاةُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ ثُمَّ أَلِفٌ ثُمَّ هَاءٌ، وَيَجُوزُ بَدَلُ الْهَاءِ هَمْزَةً حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَهِيَ رِوَايَةُ عَبْدُوسٍ.
وَحُكِيَ أَيْضًا فِي الْمُحْكَمِ: بِسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْحَاءِ.
وَحُكِيَ أَيْضًا: سُلَحْفِيَةٌ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ.
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كَذَا فِي النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ وَفِي بَعْضِهَا مَا صَادَهُ قَبْلَ لَفْظِ نَصْرَانِيٌّ. قُلْتُ: وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: كُلْ مَا أَلْقَى الْبَحْرُ وَمَا صِيدَ مِنْهُ؛ صَادَهُ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَفْهُومُهُ أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَا يُؤْكَلُ إِنْ صَادَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ قَوْمٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَبِسَنَدٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَاهِيَةَ صَيْدِ الْمَجُوسِيِّ السَّمَكَ. انْتَهَى مِنْ فَتْحِ الْبَارِي بِلَفْظِهِ.
وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ: فِي الْمُرْيِ ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ فِي لَفْظِهِ أَنَّ ذَبَحَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالْخَمْرَ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالنِّينَانُ فَاعِلُ ذَبَحَ، وَالشَّمْسُ بِالرَّفْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ النِّينَانُ، وَهِيَ جَمْعُ نُونٍ وَهُوَ: الْحُوتُ وَالْمُرْيُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، خِلَافًا لِصَاحِبِ الصِّحَاحِ والنِّهَايَةِ فَقَدْ ضَبَطَاهُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ نِسْبَةً إِلَى الْمُرِّ وَهُوَ الطَّعْمُ الْمَشْهُورُ، وَالْمُرْيُ الْمَذْكُورُ طَعَامٌ كَانَ يُعْمَلُ بِالشَّامِ، يُؤْخَذُ الْخَمْرُ فَيُجْعَلُ فِيهِ الْمِلْحُ وَالسَّمَكُ، وَيُوضَعُ فِي الشَّمْسِ فَيَتَغَيَّرُ عَنْ طَعْمِ الْخَمْرِ وَيَصِيرُ خَلًّا، وَتَغْيِيرُ الْحُوتِ وَالْمِلْحِ وَالشَّمْسِ لَهُ عَنْ طَعْمِ الْخَمْرِ إِزَالَةُ الْإِسْكَارِ عَنْهُ، هُوَ مُرَادُ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِذَبْحِ الْحِيتَانِ وَالشَّمْسِ لَهُ، فَاسْتَعَارَ الذَّبْحَ لِإِذْهَابِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ الَّتِي بِهَا الْإِسْكَارُ، وَأَثَرُ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا وَصَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لَهُ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَذَكَرَهُ سَوَاءً.
وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَرَى إِبَاحَةَ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ مَنْعَ تَخْلِيلِهَا، فَإِنْ تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبٍ لَهَا فِي ذَلِكَ فَهِيَ حَلَالٌ إِجْمَاعًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَجَمَاعَةٌ يَأْكُلُونَ هَذَا الْمُرْيَ الْمَعْمُولَ بِالْخَمْرِ. وَأَدْخَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي طَهَارَةِ صَيْدِ الْبَحْرِ، يُرِيدُ أَنَّ السَّمَكَ طَاهِرٌ حَلَالٌ، وَأَنَّ طَهَارَتَهُ وَحِلَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ كَالْمِلْحِ حَتَّى يَصِيرَ الْحَرَامُ النَّجِسُ بِإِضَافَتِهَا إِلَيْهِ طَاهِرًا حَلَالًا، وَهَذَا رَأْيُ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْلِيلَ الْخَمْرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَجَمَاعَةٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَالظَّاهِرُ مَنْعُ أَكْلِ الضَّفَادِعِ مُطْلَقًا؛ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ: أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهَا.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ: أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ، أَنَّ طَبِيبًا ذَكَرَ ضِفْدَعًا فِي دَوَاءٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ الصَّحَابِيِّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلَ طَبِيبٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا، وَسَيَأْتِي لِتَحْرِيمِ أَكْلِ الضِّفْدَعِ زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الْآيَةَ [6/ 145].
وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ الضِّفْدَعِ مُطْلَقًا قَالَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ جَمِيعَ مَيْتَاتِ الْبَحْرِ كُلَّهَا حَلَالٌ إِلَّا الضِّفْدَعَ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ.
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التِّمْسَاحَ لَا يُؤْكَلُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ لِمَنِ اشْتَهَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يُؤْكَلُ التِّمْسَاحُ وَلَا الْكَوْسَجُ؛ لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ النَّاسَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ سِبَاعَ الْبَحْرِ كَمَا يَكْرَهُونَ سِبَاعَ الْبَرِّ، وَذَلِكَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ النَّجَّادُ: مَا حَرُمَ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ فَهُوَ حَرَامٌ فِي الْبَحْرِ كَكَلْبِ الْمَاءِ وَخِنْزِيرِهِ وَإِنْسَانِهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ إِلَّا فِي الْكَلْبِ؛ فَإِنَّهُ يَرَى إِبَاحَةَ كَلْبِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي وَمَنَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَكْلَ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ:
الدَّمُ أَصْلُهُ دَمِيَ، يَائِيُّ اللَّامِ وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي حَذَفَتِ الْعَرَبُ لَامَهَا، وَلَمْ تُعَوِّضْ عَنْهَا شَيْئًا، وَأَعْرَبَتْهَا عَلَى الْعَيْنِ، وَلَامُهُ تَرْجِعُ عِنْدَ التَّصْغِيرِ، فَتَقُولُ: دُمَيٌّ بِإِدْغَامِ يَاءِ التَّصْغِيرِ فِي يَاءِ لَامِ الْكَلِمَةِ، وَتَرْجِعُ أَيْضًا فِي جَمْعِ التَّكْسِيرِ، فَالْهَمْزَةُ فِي الدِّمَاءِ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْيَاءِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ، وَرُبَّمَا ثَبَتَتْ أَيْضًا فِي التَّثْنِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ سُحَيْمٍ الرِّيَاحِيِّ: [الْوَافِرُ]:
وَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذَبَحْنَا ** جَرَى الدَّمَيَانِ بِالْخَبَرِ الْيَقِينِ

وَكَذَلِكَ تَثْبُتُ لَامُهُ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ، وَالْوَصْفِ فِي حَالَةِ الِاشْتِقَاقِ مِنْهُ فَتَقُولُ: فِي الْمَاضِي دَمِيَتْ يَدُهُ كَرَضِيَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: [الرَّجَزُ]:
هَلْ أَنْتَ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ ** وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ

وَتَقُولُ فِي الْمُضَارِعِ: يَدْمَى بِإِبْدَالِ الْيَاءِ أَلِفًا كَمَا فِي يَرْضَى، وَيَسْعَى، وَيَخْشَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [الطَّوِيلُ]:
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ** وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا

وَتَقُولُ فِي الْوَصْفِ: أَصْبَحَ جُرْحُهُ دَامِيًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: [الرَّاجِزِ]:
نَرُدُّ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا ** نَرُدُّهَا دَامِيَةً كُلَاهَا

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لَامَهُ أَصْلُهَا يَاءٌ، وَقِيلَ أَصْلُهَا: وَاوٌ وَإِنَّمَا أُبْدِلَتْ يَاءً فِي الْمَاضِي؛ لِتَطَرُّفِهَا بَعْدَ الْكَسْرِ كَمَا فِي قَوِيَ، وَرَضِيَ، وَشَجِيَ، الَّتِي هِيَ وَاوِيَّاتُ اللَّامِ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الرِّضْوَانِ، وَالْقُوَّةِ، وَالشَّجْوِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْأَصْلُ فِيهِ دَمَى بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَقِيلَ: بِإِسْكَانِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ}، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ اضْطِرَارِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالْبَاغِي وَالْعَادِي، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الِاضْطِرَارِ الْمَذْكُورَ الْمَخْمَصَةُ، وَهِيَ الْجُوعُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [5/ 3] وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاغِي وَالْعَادِي الْمُتَجَانِفُ لِلْإِثْمِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ}. وَالْمُتَجَانِفُ: الْمَائِلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: [الطَّوِيلُ]:
تَجَانَفُ عَنْ حَجَرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتِي ** وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا

فَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْبَاغِي وَالْعَادِي كِلَاهُمَا مُتَجَانِفٌ لِإِثْمٍ، وَهَذَا غَايَةُ مَا يُفْهَمُ مِنْهَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْإِثْمُ الَّذِي تَجَانَفَ إِلَيْهِ الْبَاغِي: هُوَ الْخُرُوجُ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ اسْمُ الْبَغْيِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ، وَالْإِثْمُ الَّذِي تَجَانَفَ إِلَيْهِ الْعَادِي: هُوَ إِخَافَةُ الطَّرِيقِ وَقَطْعُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ كُلُّ سَفَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. اهـ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِثْمُ الْبَاغِي وَالْعَادِي أَكْلُهُمَا الْمُحَرَّمَ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ كَالتَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [2/ 173]، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ لِقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْخَارِجِ عَلَى الْإِمَامِ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ خَافَا الْهَلَاكَ مَا لَمْ يَتُوبَا، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ لَهُمَا لِقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْخَارِجِ عَلَى الْإِمَامِ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ خَافَا الْهَلَاكَ مَا لَمْ يَتُوبَا، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ لَهُمَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ إِنْ خَافَا الْهَلَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبَا.
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ الْمَعْنَى: {غَيْرَ بَاغٍ} أَيْ: فِي أَكْلِهِ فَوْقَ حَاجَتِهِ: {وَلَا عَادٍ}، بِأَنْ يَجِدَ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مَنْدُوحَةً وَيَأْكُلُهَا.
وَنَقَلَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمَعْنَى: {غَيْرَ بَاغٍ} فِي أَكْلِهَا شَهْوَةً وَتَلَذُّذًا: {وَلَا عَادٍ} بِاسْتِيفَاءِ الْأَكْلِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا: الْمَعْنَى: {غَيْرَ بَاغٍ} عَلَى الْمُسْلِمِينَ، {وَلَا عَادٍ} عَلَيْهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاغِي وَالْعَادِي قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وَالْخَارِجُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَالْمُسَافِرُ فِي قَطْعِ الرَّحِمِ، وَالْغَارَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَا شَاكَلَهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْبَغْيِ فِي اللُّغَةِ قَصْدُ الْفَسَادِ، يُقَالُ: بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً إِذَا فَجَرَتْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [24/ 33] وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ الْبَغْيُ فِي طَلَبِ غَيْرِ الْفَسَادِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَجَ الرَّجُلُ فِي بِغَاءِ إِبِلٍ لَهُ؛ أَيْ: فِي طَلَبِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: [مُرَفَّلُ الْكَامِلِ]:
لَا يَمْنَعَنَّكَ مِنْ بِغَا ** ءِ الْخَيْرِ تَعْقَادُ الرَّتَائِمْ

إِنَّ الْأَشَائِمَ كَالْأَيَا ** مِنِ وَالْأَيَامِنَ كَالْأَشَائِمْ

وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاضْطِرَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْإِكْرَاهُ عَلَى أَكْلِ الْمُحَرَّمِ، كَالرَّجُلِ يَأْخُذُهُ الْعَدُوُّ، فَيُكْرِهُونَهُ عَلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمَخْمَصَةُ الَّتِي هِيَ الْجُوعُ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ آيَةَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [5/ 3]، مُبَيِّنَةٌ لِذَلِكَ، وَحُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ مَا ذُكِرَ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [16/ 106] بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالِاضْطِرَارِ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ وَيُمْسِكُ حَبَّاتِهِ، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْسِ الشِّبَعِ هَلْ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَوْ لَيْسَ لَهُ مُجَاوَزَةُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ، وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ.
فَذَهَبَ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- إِلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَيَتَزَوَّدَ مِنْهَا، قَالَ فِي مُوَطَّئِهِ: إِنَّ أَحَسَنَ مَا سُمِعَ فِي الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ، أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَيْسَ مِمَّنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْمَيْتَةُ، فَإِذَا كَانَتْ حَلَالًا لَهُ أَكَلَ مِنْهَا مَا شَاءَ حَتَّى يَجِدَ غَيْرَهَا فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا إِلَّا قَدْرَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيُمْسِكُ الْحَيَاةَ، وَحُجَّتُهُمَا: أَنَّ الْمَيْتَةَ لَا تُبَاحُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَإِذَا حَصَلَ سَدُّ الرَّمَقِ انْتَفَتِ الضَّرُورَةُ فِي الزَّائِدِ عَلَى ذَلِكَ.
وَعَلَى قَوْلِهِمَا دَرَجَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ حَيْثُ قَالَ: وَلِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ غَيْرُ آدَمِيٍّ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَحَلٌّ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَخْمَصَةُ نَادِرَةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ دَائِمَةً فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الشِّبَعِ مِنْهَا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ، وَحُجَّتُهُمَا فِي الْقَوْلَيْنِ كَحُجَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِمَا، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا. وَالْقَوْلَانِ الْمَذْكُورَانِ مَشْهُورَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَاخْتَارَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ سَدَّ الرَّمَقِ، وَرَجَّحَهُ الْقَفَّالُ وَكَثِيرُونَ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ. وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا حِلَّ الشِّبَعِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ أَيْضًا.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْعُمْرَانِ حَلَّ الشِّبَعُ وَإِلَّا فَلَا، وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ تَفْصِيلًا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي بَادِيَةٍ وَخَافَ إِنْ تَرَكَ الشِّبَعَ أَلَّا يَقْطَعَهَا وَيَهْلَكَ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَشْبَعُ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَتَوَقَّعَ طَعَامًا طَاهِرًا قَبْلَ عَوْدِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ حُصُولُ طَعَامٍ طَاهِرٍ وَأَمْكَنَ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِنْ لَمْ يَجِدِ الطَّاهِرَ، فَهَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَفِي الشِّبَعِ رِوَايَتَانِ: أَظْهَرُهُمَا: لَا يُبَاحُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ.
قَالَ الْحَسَنُ: يَأْكُلُ قَدْرَ مَا يُقِيمُهُ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَاسْتَثْنَى مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ فَإِذَا انْدَفَعَتِ الضَّرُورَةُ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ. وَلِأَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ لِلْآيَةِ. يُحَقِّقُهُ: أَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ كَهُوَ قَبْلَ أَنْ يَضْطَرَّ، وَثَمَّ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْأَكْلُ كَذَا هَاهُنَا.
وَالثَّانِيَةُ: يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ؛ لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّةَ، فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ نَاقَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَسْلُخُهَا حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ. فَقَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ»؟ قَالَ: لَا. قَالَ: «فَكُلُوهَا»، وَلَمْ يُفَرِّقْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا حَدِيثُ الْفُجَيْعِ الْعَامِرِيِّ عِنْدَهُ: أَنَّ النَّبِيَّ أَذِنَ لَهُ فِي الْمَيْتَةِ مَعَ أَنَّهُ يَغْتَبِقُ وَيَصْطَبِحُ، فَدَلَّ عَلَى أَخْذِ النَّفْسِ حَاجَتَهَا مِنَ الْقُوتِ مِنْهَا؛ وَلِأَنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ مِنْهُ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ مُسْتَمِرَّةً، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ مَرْجُوَّةَ الزَّوَالِ، فَمَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً كَحَالَةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَازَ الشِّبَعُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ عَادَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الْمَيْتَةِ مَخَافَةَ الضَّرُورَةِ الْمُسْتَقْبِلَةِ وَيُفْضِي إِلَى ضَعْفِ بَدَنِهِ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَلَفِهِ، بِخِلَافِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَمِرَّةً، فَإِنَّهُ يَرْجُو الْغِنَى عَنْهَا بِمَا يَحِلُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنَ الْمَعْنَى بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَيْسَ مَعْنَى الشِّبَعِ أَنْ يَمْتَلِئَ حَتَّى لَا يَجِدَ مُسَاغًا، وَلَكِنْ إِذَا انْكَسَرَتْ سَوْرَةُ الْجُوعِ بِحَيْثُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَائِعٍ أَمْسَكَ. اهـ. قَالَهُ النَّوَوِيُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَدُّ الِاضْطِرَارِ الْمُبِيحِ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَهُوَ الْخَوْفُ مِنَ الْهَلَاكِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا.
قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ فِيمَنْ يُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ اهـ.
وَحَدُّ الِاضْطِرَارِ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى حَالٍ يُشْرِفُ مَعَهَا عَلَى الْمَوْتِ، فَإِنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ ذَلِكَ يُفِيدُ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: الثَّانِيَةُ فِي حَدِّ الضَّرُورَةِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا خِلَافَ أَنَّ الْجُوعَ الْقَوِيَّ لَا يَكْفِي لِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، قَالُوا: وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِامْتِنَاعُ إِلَى الْإِشْرَافِ عَلَى الْهَلَاكِ؛ فَإِنَّ الْأَكْلَ حِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُ، وَلَوِ انْتَهَى إِلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ جُوعٍ أَوْ ضَعْفٍ عَنِ الْمَشْيِ أَوْ عَنِ الرُّكُوبِ، وَيَنْقَطِعُ عَنْ رُفْقَتِهِ وَيَضِيعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَلَوْ خَافَ حُدُوثَ مَرَضٍ مُخَوِّفٍ فِي جِنْسِهِ فَهُوَ كَخَوْفِ الْمَوْتِ، وَإِنْ خَافَ طُولَ الْمَرَضِ فَكَذَلِكَ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا قَوْلَانِ، وَلَوْ عِيلَ صَبْرُهُ، وَأَجْهَدَهُ الْجُوعُ فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ الْمَيْتَةُ وَنَحْوُهَا أَمْ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَصِلَ إِلَى أَدْنَى الرَّمَقِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، أَصَحُّهُمَا: الْحِلُّ.
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يَخَافُهُ تَيَقُّنُ وُقُوعِهِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ، بَلْ يَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الْمُبِيحَةَ هِيَ الَّتِي يَخَافُ التَّلَفَ بِهَا إِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ، قَالَ أَحْمَدُ: إِذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ سَوَاءً كَانَ مِنَ الْجُوعِ أَوْ يَخَافُ إِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ، وَانْقَطَعَ عَنِ الرُّفْقَةِ فَهَلَكَ، أَوْ يَعْجِزُ عَنِ الرُّكُوبِ فَيَهْلِكُ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِزَمَنٍ مَحْصُورٍ.
وَحَدُّ الِاضْطِرَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ: أَنْ يَخَافَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ يَقِينًا كَانَ أَوْ ظَنًّا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ يَجِبُ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا إِنْ خَافَ الْهَلَاكَ، أَوْ يُبَاحُ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ الْوُجُوبُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [2/ 195]، وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [4/ 29].
وَمِنْ هُنَا قَالَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ الرُّخْصَةَ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: مَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْكِيَا: وَلَيْسَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةً بَلْ هُوَ عَزِيمَةٌ وَاجِبَةٌ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ كَانَ عَاصِيًا، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَمِمَّنِ اخْتَارَ عَدَمَ الْوُجُوبِ وَلَوْ أَدَّى عَدَمُ الْأَكْلِ إِلَى الْهَلَاكِ أَبُو إِسْحَاقَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- وَغَيْرُهُمْ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ لَهُ غَرَضًا صَحِيحًا فِي تَرْكِهِ وَهُوَ اجْتِنَابُ النَّجَاسَةِ، وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي فِي وَجْهِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، مَا نَصُّهُ: وَهَلْ يَجِبُ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُضْطَرِّ؛ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُضْطَرِّ يَجِدُ الْمَيْتَةَ وَلَمْ يَأْكُلْ، فَذَكَرَ قَوْلَ مَسْرُوقٍ: مَنِ اضْطُرَّ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ دَخَلَ النَّارَ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وَتَرْكُ الْأَكْلِ مَعَ إِمْكَانِهِ فِي هَذَا الْحَالِ إِلْقَاءٌ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [4/ 29] وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فَلَزِمَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ حَلَالٌ.
وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ طَاغِيَةَ الرُّومِ حَبَسَهُ فِي بَيْتٍ، وَجَعَلَ مَعَهُ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِمَاءٍ، وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٍّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَالَ رَأْسُهُ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَخَشَوْا مَوْتَهُ، فَأَخْرَجُوهُ فَقَالَ: قَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي؛ لِأَنِّي مُضْطَرٌّ، وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لِأُشْمِتُكَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّ إِبَاحَةَ الْأَكْلِ رُخْصَةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الرُّخَصِ؛ وَلِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَالْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ، وَرُبَّمَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَفَارَقَ الْحَلَالَ فِي الْأَصْلِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا؛ وُجُوبُ تَنَاوُلِ مَا يُمْسِكُ الْحَيَاةَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ إِهْلَاكُ نَفْسِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَلْ يُقَدِّمُ الْمُضْطَرُّ الْمَيْتَةَ أَوْ مَالَ الْغَيْرِ؟
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ مَالَ الْغَيْرِ إِنْ لَمْ يَخَفْ أَنْ يُجْعَلَ سَارِقًا وَيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ. فَفِي مُوَطَّئِهِ مَا نَصُّهُ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ أَيَأْكُلُ مِنْهَا وَهُوَ يَجِدُ ثَمَرًا لِقَوْمٍ، أَوْ زَرْعًا، أَوْ غَنَمًا بِمَكَانِهِ ذَلِكَ؟ قَالَ مَالِكٌ: إِنْ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الثَّمَرِ، أَوِ الزَّرْعِ، أَوِ الْغَنَمِ يُصَدِّقُونَهُ بِضَرُورَتِهِ حَتَّى لَا يُعَدَّ سَارِقًا فَتُقْطَعُ يَدُهُ، رَأَيْتُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ وَجَدَ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ، وَلَا يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئًا، وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ. وَإِنْ هُوَ خَشِيَ أَلَّا يُصَدِّقُوهُ، وَأَنْ يُعَدَّ سَارِقًا بِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنْ أَكْلَ الْمَيْتَةِ خَيْرٌ لَهُ عِنْدِي، وَلَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَعَةٌ، مَعَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَعْدُوَ عَادٍ مِمَّنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ يُرِيدُ اسْتِجَازَةَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَزُرُوعِهِمْ، وَثِمَارِهِمْ بِذَلِكَ بِدُونِ اضْطِرَارٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ حَضَرَ صَاحِبُ الْمَالِ فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ، فَإِنْ مَنَعَهُ فَجَائِزٌ لِلَّذِي خَافَ الْمَوْتَ أَنْ يُقَاتِلَهُ؛ حَتَّى يَصِلَ إِلَى أَكْلِ مَا يَرُدُّ نَفْسَهُ.
الْبَاجِيُّ: يُرِيدُ أَنَّهُ يَدْعُوهُ أَوَّلًا إِلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ أَبَى اسْتَطْعَمَهُ، فَإِنْ أَبَى، أَعْلَمَهُ أَنَّهُ يُقَاتِلُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى عَاطِفًا عَلَى مَا يُقْدِمُ الْمُضْطَرُّ عَلَى الْمَيْتَةِ وَطَعَامِ غَيْرٍ إِنْ لَمْ يَخَفِ الْقَطْعَ وَقَاتَلَ عَلَيْهِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا: هُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِقَوْلِهِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ، وَهُوَ غَائِبٌ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، وَقِيلَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَصَحُّهَا يَجِبُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَالثَّانِي: يَجِبُ أَكْلُ الطَّعَامِ، وَالثَّالِثُ: يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا.
وَأَشَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخِلَافِ فِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقِّ الْآدَمِيِّ وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ حَاضِرًا، فَإِنْ بَذَلَهُ بِلَا عِوَضٍ، أَوْ بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ بِزِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا وَمَعَهُ ثَمَنُهُ، أَوْ رَضِيَ بِذِمَّتِهِ لَزِمَهُ الْقَبُولُ، وَلَمْ يَجُزْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالطَّبَرِيُّونَ، وَغَيْرُهُمْ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الشِّرَاءُ فَهُوَ كَمَا إِذَا لَمْ يَبْذُلْهُ أَصْلًا، وَإِذَا لَمْ يَبْذُلْهُ لَمْ يُقَاتِلْهُ عَلَيْهِ الْمُضْطَرُّ إِنْ خَافَ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ خَافَ هَلَاكَ الْمَالِكِ فِي الْمُقَاتَلَةِ، بَلْ يَعْدِلُ إِلَى الْمَيْتَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ؛ لِضَعْفِ الْمَالِكِ، وَسُهُولَةِ دَفْعِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِيمَا إِذَا كَانَ غَائِبًا، هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَشْتَرِيهِ بِالثَّمَنِ الْغَالِي، وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، ثُمَّ يَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى أَوْ ثَمَنُ الْمِثْلِ، قَالَ: وَإِذَا لَمْ يَبْذُلْ أَصْلًا وَقُلْنَا طَعَامُ الْغَيْرِ أَوْلَى مِنَ الْمَيْتَةِ يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَهُ، وَيَأْخُذَهُ قَهْرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَاصِلُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْمَيْتَةَ عَلَى طَعَامِ الْغَيْرِ.
قَالَ الْخِرَقِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَمَنِ اضْطُرَّ فَأَصَابَ الْمَيْتَةَ وَخُبْزًا لَا يَعْرِفُ مَالِكَهُ أَكَلَ الْمَيْتَةَ. اه.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي فِي شَرْحِهِ لِهَذَا الْكَلَامِ مَا نَصُّهُ: وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانُوا يُصَدِّقُونَهُ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ أَكَلَ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، وَشَرِبَ اللَّبَنَ، وَإِنْ خَافَ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ أَوْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ أَكَلَ الْمَيْتَةَ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلَالِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ كَمَا لَوْ بَذَلَهُ لَهُ صَاحِبُهُ.
وَلَنَا أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَمَالُ الْآدَمِيِّ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَالْعُدُولُ إِلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشُّحِّ وَالتَّضْيِيقِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ تَلْزَمُهُ غَرَامَتَهُ، وَحَقُّ اللَّهِ لَا عِوَضَ لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا كَانَ الْمُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ مُحْرِمًا وَأَمْكَنَهُ الصَّيْدُ فَهَلْ يُقَدِّمَ الْمَيْتَةَ أَوِ الصَّيْدَ؟
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ: إِلَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْمَيْتَةَ.
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قَوْلٌ بِتَقْدِيمِ الصَّيْدِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّ الْمُحْرِمَ إِنْ ذَكَّى صَيْدًا لَمْ يَكُنْ مَيْتَةً.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَكَاةَ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ لَغْوٌ وَيَكُونُ مَيْتَةً، وَالْمَيْتَةُ أَخَفُّ مِنَ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّهُ يُشَارِكُهَا فِي اسْمِ الْمَيْتَةِ وَيَزِيدُ بِحُرْمَةِ الِاصْطِيَادِ، وَحُرْمَةِ الْقَتْلِ، وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِتَقْدِيمِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ عَلَى الْمَيْتَةِ أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الصَّيْدَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَمَعَ جَوَازِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَنْتَفِي الضَّرُورَةُ فَلَا تَحِلُّ الْمَيْتَةُ.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ حِلَّ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَإِبَاحَةَ الصَّيْدِ لِلضَّرُورَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهَا، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُضْطَرُّ إِلَّا صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَهُ ذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ، وَلَهُ الشِّبَعُ مِنْهُ عَلَى التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّرُورَةِ وَعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ صَارَ مُذَكًّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً طَاهِرًا حَلَالًا فَلَيْسَ بِمَيْتَةٍ، وَلِذَا تَجِبُ ذَكَاتُهُ الشَّرْعِيَّةُ، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَالْأَكْلُ مِنْهُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ.
وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً، وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ لَحْمَ إِنْسَانٍ مَيِّتٍ، فَالظَّاهِرُ تَقْدِيمُ الْمَيْتَةِ عَلَى الْخِنْزِيرِ وَلَحْمِ الْآدَمِيِّ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: إِنْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً، وَخِنْزِيرًا فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مَيْتَةٌ وَلَا يُبَاحُ بِوَجْهٍ، وَكَذَلِكَ يُقَدِّمُ الصَّيْدَ عَلَى الْخِنْزِيرِ وَالْإِنْسَانِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَكْلُ الْإِنْسَانِ لِلضَّرُورَةِ مُطْلَقًا وَقَتْلُ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ الْمَعْصُومِ الدَّمِ لِأَكْلِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ حَرَامٌ إِجْمَاعًا، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا. وَإِنْ وُجِدَ إِنْسَانٌ مَعْصُومٌ مَيِّتًا فَهَلْ يَجُوزُ لَحْمُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَوْ لَا يَجُوزُ؟ مَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَاحْتَجَّ الْحَنَابِلَةُ لِمَنْعِهِ لِحَدِيثِ: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ» وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْهُمْ جَوَازَ أَكْلِهِ، وَقَالَ: لَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنَ اللَّحْمِ لَا مِنَ الْعَظْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ التَّشْبِيهُ فِي أَصْلِ الْحُرْمَةِ لَا فِي مِقْدَارِهَا بِدَلِيلِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الضَّمَانِ وَالْقِصَاصِ، وَوُجُوبُ صِيَانَةِ الْحَيِّ بِمَا لَا يَجِبُ بِهِ صِيَانَةُ الْمَيِّتِ، قَالَهُ فِي الْمُغْنِي.
وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ آدَمِيًّا غَيْرَ مَعْصُومٍ كَالْحَرْبِيِّ، وَالْمُرْتَدِّ فَلَهُ قَتْلُهُ، وَالْأَكْلُ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: هَلْ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَدْفَعَ ضَرُورَتَهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ؟ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا.
الثَّانِي: الْإِبَاحَةُ مُطْلَقًا.
الثَّالِثُ: الْإِبَاحَةُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ إِلَى التَّدَاوِي بِهَا دُونَ الْعَطَشِ.
الرَّابِعُ: عَكْسُهُ.
وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ مُطْلَقًا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الظَّاهِرُ أَنَّ التَّدَاوِيَ بِالْخَمْرِ لَا يَجُوزُ؛ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ طَارِقُ بْنُ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيُّ عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ، أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» وَالظَّاهِرُ إِبَاحَتُهَا؛ لِإِسَاغَةِ غُصَّةٍ خِيفَ بِهَا الْهَلَاكُ؛ وَعَلَيْهِ جُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِسَاغَةِ الْغُصَّةِ وَبَيْنَ شُرْبِهَا لِلْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ أَنَّ إِزَالَتَهَا لِلْغُصَّةِ مَعْلُومَةٌ، وَأَنَّهَا لَا يَتَيَقَّنُ إِزَالَتُهَا لِلْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهَلْ لِمَنْ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ أَنْ يَشْرَبَ لِجُوعِهِ أَوْ عَطَشِهِ الْخَمْرَ؟ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَشْرَبُهَا وَلَنْ تَزِيدَهُ إِلَّا عَطَشًا.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَشْرَبُ الْمُضْطَرُّ الدَّمَ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَلَا يَقْرُبُ ضَوَالَّ الْإِبِلِ، وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ غُصَّ بِطَعَامٍ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُجَوِّزَهُ بِالْخَمْرِ، وَقَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ.
أَمَّا التَّدَاوِي بِهَا فَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ: وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا لِإِسَاغَةِ الْغُصَّةِ فَالْفَرْقُ أَنَّ التَّدَاوِيَ بِهَا لَا يَتَيَقَّنُ بِهِ الْبُرْءُ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ. اه. بِنَقْلِ الْمَوَّاقِ فِي شَرْحِ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَخَمْرٌ لِغُصَّةٍ، وَمَا نَقَلْنَا عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ الْخَمْرَ لَا تَزِيدُ إِلَّا عَطَشًا، نَقَلَ نَحْوَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: وَقَدْ نَقَلَ الرُّويَانِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- نَصَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ؛ مُعَلِّلًا بِأَنَّهَا تُجِيعُ وَتُعَطِّشُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: سَأَلْتُ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ: الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهَا تَرْوِي فِي الْحَالِ، ثُمَّ تُثِيرُ عَطَشًا عَظِيمًا.
وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ: قَالَتِ الْأَطِبَّاءُ: الْخَمْرُ تَزِيدُ فِي الْعَطَشِ وَأَهْلُ الشُّرْبِ يَحْرِصُونَ عَلَى الْمَاءِ الْبَارِدِ، فَجَعَلَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ فِي دَفْعِ الْعَطَشِ.
وَحَصَلَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ فِي الدَّوَاءِ فَثَبَتَ تَحْرِيمُهَا مُطْلَقًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ. مِنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ.
وَبِهِ تَعَلَمُ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ جَوَازِهَا لِلْعَطَشِ خِلَافَ الصَّوَابِ، وَمَا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْأَبْهَرِيُّ مِنْ أَنَّهَا تَنْفَعُ فِي الْعَطَشِ خِلَافَ الصَّوَابِ أَيْضًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَنْ مَرَّ بِبُسْتَانٍ لِغَيْرِهِ فِيهِ ثِمَارٌ وَزَرْعٌ، أَوْ بِمَاشِيَةٍ فِيهَا لَبَنٌ، فَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا اضْطِرَارًا يُبِيحُ الْمَيْتَةَ فَلَهُ الْأَكْلُ بِقَدْرِ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ إِجْمَاعًا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ حَمْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ مِنْهُ.
فَقِيلَ: لَهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي بَطْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْمِلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحَوَّطِ عَلَيْهِ فَيُمْنَعُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ، وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» وَعُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [4/ 29] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَإِلَّا فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ، وَلَا يَحْمِلْ» اهـ.
وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ حَائِطًا فَلْيَأْكُلْ، وَلَا يَتَّخِذْ خُبْنَةً» قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ. وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ: «مَنْ أَصَابَ مِنْهُ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ» قَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ مِنْهُ، وَلَا يَتَّخِذْ ثِبَانًا».
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو: هُوَ يَحْمِلُ الْوِعَاءَ الَّذِي يَحْمِلُ فِيهِ الشَّيْءَ، فَإِنْ حَمَلْتَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ فَهُوَ ثِبَانٌ، يُقَالُ: قَدْ تَثَبَّنْتَ ثِبَانًا، فَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى ظَهْرِكَ فَهُوَ الْحَالُ، يُقَالُ: مِنْهُ قَدْ تَحَوَّلَتْ كِسَائِي، إِذَا جَعَلْتَ فِيهِ شَيْئًا ثُمَّ حَمَلْتَهُ عَلَى ظَهْرِكَ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ فِي حِضْنِكَ فَهُوَ خُبْنَةٌ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمَرْفُوعُ: «وَلَا يَتَّخِذُ خُبْنَةً» يُقَالُ: فِيهِ خَبَنْتُ أَخْبِنُ خَبْنَا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي زَيْنَبَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَأَبِي بُرْدَةَ، فَكَانُوا يَمُرُّونَ بِالثِّمَارِ، فَيَأْكُلُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ، نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَحَمَلَ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْيَشْكُرِيِّ الْغُبَرِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أَصَابَتْنَا عَامًا مَخْمَصَةٌ فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَأَتَيْتُ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهَا، فَأَخَذْتُ سُنْبُلًا فَفَرَكْتُهُ وَأَكَلْتُهُ، وَجَعَلْتُهُ فِي كِسَائِي، فَجَاءَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَضَرَبَنِي، وَأَخَذَ ثَوْبِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «مَا أَطْعَمْتُهُ إِذْ كَانَ جَائِعًا أَوْ سَاغِبًا وَلَا عَلَّمْتُهُ إِذْ كَانَ جَاهِلًا»، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِوَسْقٍ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ نِصْفِ وَسْقٍ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْقَطْعِ وَالْأَدَبِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ الْمَخْمَصَةِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَقِبَ نَقْلِهِ لِمَا قَدَّمْنَا عَنْ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا يُوَجِّهُ هَذَا الْحَدِيثَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ لِلْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ، الَّذِي لَا شَيْءَ مَعَهُ يَشْتَرِي بِهِ، أَلَا يَحْمِلَ إِلَّا مَا كَانَ فِي بَطْنِهِ قَدْرَ قُوُتِهِ، ثُمَّ قَالَ: قُلْتُ: لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ مَالِ الْغَيْرِ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ.
فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ عَادَةٌ بِعَمَلِ ذَلِكَ كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَوْ كَمَا هُوَ الْآنَ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَوْقَاتِ الْمَجَاعَةِ وَالضَّرُورَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. مِنْهُ.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحَوَّطِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، أَنَّ إِحْرَازَهُ بِالْحَائِطِ دَلِيلٌ عَلَى شُحِّ صَاحِبِهِ بِهِ وَعَدَمِ مُسَامَحَتِهِ فِيهِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ كَانَ عَلَيْهَا حَائِطٌ فَهُوَ حَرَامٌ فَلَا تَأْكُلْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا حَائِطٌ فَلَا بَأْسَ، نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَغَيْرُهُ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَالِ الْمُسْلِمِ فَيَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَبَيْنَ مَالِ الْكِتَابِيِّ الذِّمِّيِّ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ غَيْرِ ظَاهِرٍ.
وَيَجِبُ حَمْلُ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ الْوَارِدِ فِي الْمَنْعِ مِنْ دُخُولِ بُيُوتِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْعِ الْأَكْلِ مِنْ ثِمَارِهِمْ إِلَّا بِإِذْنٍ عَلَى عَدَمِ الضَّرُورَةِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ هَذَا الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى مَنْ أَتَى الْمَالَ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا، أَوْ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: {عَلَى حُبِّهِ} أَيْ: حُبِّ مُؤْتِي الْمَالَ لِذَلِكَ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [3/ 92] وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ تَلَازُمًا فِي الْمَعْنَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحِينَ الْبَأْسِ}، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا الْمُرَادُ بِالْبَأْسِ؟ وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْبَأْسَ الْقِتَالُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [33/ 18] كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هِيَ ثَلَاثَةٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَعَاشُورَاءُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هِيَ رَمَضَانُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ بَيَّنَهَا تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ} الْآيَةَ [2/ 185].